منذ ظهور أول شبكة خلوية في اليابان أواخر السبعينيات، تطورت تقنيات الاتصالات المحمولة على شكل طفرات تكنولوجية تحدث تقريبًا كل عقد. مع كل قفزة، كانت الصناعة تطلق معيارًا جديدًا يحفز موجات من الابتكار والمنافسة، مع ضخ استثمارات ضخمة لتحديث البنية التحتية، مدفوعة بالأمل في جذب المستهلكين لمزايا أسرع وأقوى.
لكن مع الجيل الخامس، توقف هذا الزخم. فقد أنفقت شركات الاتصالات أكثر من 150 مليار دولار ما بين 2018 و2024 على شراء الترددات اللازمة لنشر التقنية، إضافة إلى مليارات أخرى على البنية التحتية، دون أن تحقق العوائد المرجوة أو تحدث التحول المنتظر.
وعود طموحة وتسويق مفرط
روّجت الحملات التسويقية للجيل الخامس على أنه أكثر من مجرد تطور في سرعة الإنترنت. فقد صُوِّر على أنه الأساس لمستقبل يشمل الجراحة عن بعد، السيارات ذاتية القيادة، الواقع المعزز، والميتافيرس. وامتدت هذه الوعود إلى تحسين الإنتاج الصناعي والمنازل الذكية، ليبدو وكأن الجيل الخامس سيعيد تشكيل العالم.
لكن بعد ست سنوات من إطلاقه، لم يظهر أثر حقيقي لهذا التحول. فالتحسينات التي طرأت على تجربة المستخدم العادي لا تزال طفيفة، والتغطية غالبًا غير منتظمة، ما يجعل أداء الجيل الخامس غير موثوق، حتى في أبسط السيناريوهات كتحميل مقطع فيديو أثناء التنقل.
هل المشكلة في التقنية أم في غياب الحاجة الفعلية؟
يشير محللون إلى أن غياب تطبيقات ثورية فعالة كان أحد أهم أسباب إخفاق الجيل الخامس. فمثلاً، لا يزال الأطباء يفضلون العمليات الجراحية التقليدية، وتقنيات السيارات ذاتية القيادة لم تُصمم بالأساس لاعتماد كامل على هذه الشبكات. حتى في مجال الألعاب والبث المباشر، لا يزال الاتصال المنزلي الثابت يوفر أداءً مرضيًا.
أما الميتافيرس، الذي بُنيت عليه كثير من آمال الجيل الخامس، فلا يزال حلماً بعيد المنال. كما أن تطبيقات "إنترنت الأشياء" – التي وعدت بها التقنية – لم تنتشر كما كان متوقعًا، رغم ما حظيت به من دعم.
البنية التحتية: تطور مكلف وغير كافٍ
رغم الإمكانات التقنية الكبيرة للجيل الخامس، مثل مضاعفة السرعة ونقل كميات هائلة من البيانات وتقنيات مثل MIMO وتشكيل الحزم، فإن تكلفة نشر الشبكة مرتفعة للغاية. وتحتاج إلى عدد أكبر من الأجهزة لكل ميل مربع مقارنة بالجيل الرابع، ما يرفع تكاليف التركيب والصيانة والحصول على التراخيص.
حتى مبادرات مثل "شبكة الوصول الراديوي المفتوحة" التي وُعد بها لتقليل الكلفة، لم تحقق الانتشار المطلوب. وبعد أكثر من عقد من تطويرها، لا تزال غير جاهزة للتنفيذ واسع النطاق.
شبكات غير مكتملة تحت لافتة الجيل الخامس
الغالبية من شبكات الجيل الخامس الحالية هي شبكات "غير مستقلة"، ترتكز على بنية الجيل الرابع. هذا يعني أن التجربة لا تختلف كثيرًا، حتى وإن ظهر شعار "5G" على هاتفك. وفي كثير من الأحيان، تكون هذه التجربة أبطأ بسبب تداخل إشارات الجيلين.
الأرقام تؤكد هذا التباين: فحتى سبتمبر 2024، كانت 211 شبكة من 122 دولة تعلن تقديم الجيل الخامس، لكن 57 فقط منها كانت تعتمد على شبكات مستقلة بالكامل.
هل لا يزال الأمل قائماً؟
يستغرق نشر أي شبكة جديدة وقتًا طويلاً. فعلى سبيل المثال، استغرق انتشار الجيل الرابع نحو عقد. لذا قد يكون الوقت مبكرًا للحكم النهائي على الجيل الخامس. كما بدأ يُستخدم في بعض المناطق كبديل مؤقت للنطاق العريض المنزلي.
تقنيات مثل "تقسيم الشبكة" (Network Slicing) تتيح فرصًا تجارية، لكن حتى الآن يظل استخدامها محدودًا وفي حالات خاصة، مثل الأحداث الكبرى. التطبيقات الصناعية، مثل استخدام الجيل الخامس في المصانع والموانئ، تحمل إمكانيات واعدة، لكنها لم تحقق أرباحًا تُذكر حتى الآن.
استثناءات آسيوية وخليجية
شهدت دول آسيوية مثل كوريا الجنوبية، وبعض الدول الخليجية، انتشارًا أوسع وأسرع للجيل الخامس، بدعم مباشر من الحكومات وتوافر بنية تحتية أكثر تركيزًا في المدن. ورغم ذلك، لم تشهد شركات الاتصالات هناك ارتفاعًا ملحوظًا في العوائد، ما يعزز التساؤلات حول النموذج الربحي للتقنية.
نحو الجيل الخامس المتقدم... والسادس؟
قبل أن تكتمل تغطية الجيل الخامس بالكامل، بدأت صناعة الاتصالات الحديث عن "الجيل الخامس المتقدم" (5G Advanced)، الذي يعد بتجارب محسنة للتطبيقات التفاعلية. بل إن الحديث عن الجيل السادس (6G) بدأ بالفعل، رغم أن تقنيات الجيل الخامس لم تبلغ نضجها بعد.
خلاصة:
شبكات الجيل الخامس لم تخذل العالم تقنيًا بقدر ما خيبته تجاريًا وتسويقيًا. فهي لا تزال تحمل إمكانات كبيرة، لكن الافتقار إلى التطبيقات القاتلة، وارتفاع التكاليف، والنشر المتسرع لشبكات غير مكتملة، جعلت معظم المستخدمين يتساءلون: ما الجديد في الجيل الخامس؟
الجواب قد لا يكون في الشبكة نفسها، بل في ما نفعله بها.