الأخبار

يوم عرفة - خير يوم طلعت عليه الشمس

لا يوجد مشهد في السنة كلها تتجلى فيه عظمة الله تعالى كما هو يوم عرفة، الحجاج على بكرة أبيهم محتشدون في مقام واحد ومكان واحد، هذا الكم الكبير العظيم الذي يسد الأفق جاء ليخضع، وأتى ليخشع، وحضر ليدعو، وجثى على ركبتيه ليستغفر ويتوب ويؤوب، ويسأل الله حاجاته، ويلبي ربه الكريم بنشيد واحد وبأذكار موحدة.

ومن أجْل هذه المعاني العظمى التي تتجلى فيها العبودية كافأها الله تعالى بما يجلي ربوبيته وألوهيته وعظمته، أعظم ما يكون التجلي، لقاء هذا الخضوع وهذه العبودية، فالأمر كما أخرج أحمد والسيوطي بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال، قال النبي- صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ تعالى يباهَي ملائكتَه عشيةَ عرفةَ بأهلِ عرفةَ، يقولُ: انظروا إلى عباديِ، أَتَوْنِي شُعْثًا غَبْرًا"، وفي رواية عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال، قال النبي- صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ تعالى يُباهي بأهلِ عرفاتٍ ملائكةَ السَّماءِ، يقولُ: انظروا إلى عبادي، أتَوْني شُعثًا غُبرًا من كلِّ فجٍّ عميقٍ، أُشهِدُكم أنِّي قد غفرتُ لهم" [أخرجه أبو نعيم في الحلية، وهو صحيح من حديث سعيد بن المسيب].

وعن طلحة بن عبيد الله قال: "ما رُؤِيَ الشيطانُ يومًا هو أصغَرُ ولا أدْحَرُ ولا أحقَرُ ولا أغْيَظُ منه في يومِ عرفَةَ، وما ذاكَ إِلّا لما يرى من تنزِّلِ الرحمةِ وتجاوُزِ اللهِ عنِ الذنوبِ العظامِ، إلّا ما أُرِيَ يومَ بدرٍ، قيلَ: وما رَأى يوم بدرٍ؟ قال: أما إنه قد رَأى جبريلَ وهو يَزِعُّ الملائكَةَ". [قال الزيلعي في تخريج الكشاف، والأرناؤوط في تخريج شرح السنة: "مرسل صحيح"].

يا لها من لحظات يتجلى العبد فيها بضعفه وحاجته وفقر لله تعالى، ويتجلى الله فيها ويتفرد بالعظمة والوحدانية والقهر فوق العباد، العبد يبكي والرب يباهي بعبده، العبد يسأل والرب يعطي لعبده، العبد يدعو والرب يجيب عبده، العبد يستغفر والرب يغفر الذنوب جميعًا.

إن القلب يكاد ينخلع أمام هذا المشهد المهيب، وإن العين لا تملك أن تحجز الدموع خشية لله تعالى واستشعارًا لعظمته، وتحقيقًا للفقر والحاجة إليه، وهذه كلمات لا يشعر بها إلا من وقف هذا الموقف، وشاهد هذه المعاني، وذاق طعم العبادة والدعاء والرجاء في هذا اليوم العظيم أمام الله تعالى العظيم.

إن التأمل في فريضة الحج ابتداء من نداء إبراهيم- عليه السلام- بمقتضى قول الله تعالى- ﴿وَأَذِّن فِی ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ یَأۡتُوكَ رِجَالا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرࣲ یَأۡتِینَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِیقࣲ﴾ [الحج ٢٧]، الذي أذن في الناس كما أمره الله، فظل الناس يلبون هذا النداء، ويجيبون هذا الأذان حتى يوم الناس هذا وإلى قيام الساعة، وإنما يدل على العظمة الإلهية التي لا نظير لها، وقد أخرج الطبري في تفسيره لهذه الآية بسنده عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: "لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له ﴿أذّنْ فِي النَّاسِ بالحَجّ﴾ قال: ربّ ومَا يبلغ صوتي؟ قال: أذّن وعليّ البلاغ، فنادى إبراهيم: أيها الناس كُتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق فحجوا. قال: فسمعه ما بين السماء والأرض، أفلا ترى الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبون".

ومرورا بأداء المناسك التي يلبون فيها ويكبّرون ويسبحون ويهللون، أتوا من كل فج عميق لتلبية هذا النداء الإلهي العظيم، ولقصد هذا الرب الكريم بلباس واحد، إلى قبلة واحدة، وأذكار واحدة، ونشيد موحد "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك". يستوي في ذلك القوي والضعيف، الغني والفقير، المشهور والمغمور، الوزير والخفير، الحاكم والمحكوم، الكل أمام الله سواء، والجميع يخضعون لإله عظيم لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ﴿ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ﴾ [الحجرات ١٣].